آية كريمة قال عنها الصحابي الجليلعبد الله بن مسعود: إنها أجمع آية في القرآن، وبنى على أساسها سلطان العلماءعز الدين ابن عبد السلامكتاباً برأسه، سماه "شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال"، إنها قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل:90).
لا نرمي في هذا المقال إلى الخوض في تفسير هذه الآية، بل نسعى إلى تتبع ما ورد في سبب نزولها.
روى الإمام أحمد في "مسنده" عنابن عباسرضي الله عنهما، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر بهعثمان بن مظعون، فكَشَر - تبسم - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس؟"، فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص - رفع - رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسهعثمانإلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغُِضُ رأسه - يحركه - كأنه يستفقه - يستعلم - ما يقال له، و ابن مظعونينظر. فلما قضى حاجته، واستفقه ما يقال له، شَخَص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره حتى توارى في السماء. فأقبل إلىعثمانبجلسته الأولى، فقال: يامحمد!، فيما كنت أجالسك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال: "وما رأيتني فعلت؟" قال: رأيتك شَخَص بصرك إلى السماء، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك، كأنك تستفقه شيئاً يقال لك. قال: "وفطنت لذلك؟"، فقالعثمان: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفاً - جبريل - وأنت جالس". قال: رسولُ الله؟ قال: "نعم". قال: فما قال لك؟ قال: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قالعثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم.
قالابن كثيربعد أن ساق هذا الحديث: إسناد جيد متصل حسن، قد بُيِّن فيه السماع المتصل.
وقد ذكرالواحديهذه الرواية في كتابه "أسباب النزول" كسبب لنزول هذه الآية، ولم يذكرالسيوطيفي كتابه "لباب النقول في أسباب النزول" شيئاً بصدد هذه الآية.
وروى الإمامأحمدأيضاً عنعثمان بن أبي العاصرضي الله عنه، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، إذ شَخَصَ بصره، فقال: أتانيجبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}. قالابن كثير: إسناده لا بأس به.
وهذه الرواية توافق سابقتها من حيث المعنى، والاختلاف بينهما من جهة الراوي.
وقد ذكرالرازيفي "تفسيره" رواية ثالثة، يوافق مضمونها مضمون الروايتين السابقتين مع زيادة معنى، تقول الرواية: إنعثمان بن مظعونرضي الله عنه، قال: ما أسلمت أولاً إلا حياء منمحمدعليه السلام، ولم يتقرر الإسلام في قلبي، فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شَخَصَ إلى السماء، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك، فسألته فقال: ( بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني، فقال: يا محمد! { إن الله يأمر بالعدل والإحسان}،العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: القيام بالفرائض، {وإيتاء ذي القربى}:صلة ذي القرابة، { وينهى عن الفحشاء}:الزنا، { والمنكر}:ما لا يُعرف في شريعة ولا سنة، { والبغي}:الاستطالة)، قالعثمان: فوقع الإيمان في قلبي، فأتيتأبا طالبفأخبرته، فقال: يا معشر قريش! اتبعوا ابن أخي ترشدوا، ولئن كان صادقاً أو كاذباً فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق.
هذا حاصل ما ورد من روايات تتعلق بسبب نزول هذا الآية، وهي في المحصلة تدور حول صحابي كان قد أسلم بداية؛ حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن سمع هذه الآية استقر الإيمان في قلبه.
ومما يحسن الإشارة إليه هنا، هو أن هذه الآية قد جمعت أصول الشريعة، من حيث إنها أمرت بثلاثة أمور، لا يصلح شأن الإنسان إلا بها، وهي: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهت عن ثلاثة أمور، لا يصلح شأن الدنيا إلا بها، وهي: الفحشاء، والمنكر، والبغي. وبهذه الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة تستقيم حياة الناس في الدنيا، ويفوزون بالآخرة.